2013, دار ناشري - الكويت
إلى أين يمكن أن تنتهي بنا مغامرة مثل التي أقدمنا عليها لتحليل موضوع افتراس اللحوم الآدمية؟ لربما أفضى بنا التحليل في النهاية - وليبق حديث الليل سرا بيننا - إلى أن سلوك الافتراس أبعد من أن يختزل في مجرد نزوة عشوائية عابرة، أو في رد فعل اضطراري أعيته الحاجة أو أعجزه طلب الثأر... لأنه كل هذه الرموز معا. ولأنه كل هذه الرموز بالضبط، فتحليله لا ينبغي أن يركن إلى صرامة علمية مزعومة متصلبة، بل ينبغي بالأحرى أن يتمتع بقدر عال من المرونة لإبراز "الرمز" الفاعل عند معالجة كل حالة على حدة، وإقصائه إذا دعت الضرورة في حالة - حالات - مغايرة لا تستدعيه وظيفيا. - ماذا إذن؟ - ما كان علينا إذن أن ننساق وراء سببية مزعومة تركن إلى تفاسير مبهمة، تختفي رغم تعبيراتها المغرية الجذابة، خلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، خلف البنى التحتية المحركة، خلف الدافعية "العميقة" البعيدة التي ينبغي على المؤرخ الكشف عنها دائما حتى تتكشف "عبقريته" و"نبوغه". سببية كانت تكبل الفكر عن القيام بكل ممارسة حرة نبيلة، تجعلنا نَنفُر من التاريخ ونُنفّر منه. لا ننفي قطعا هذه الأسباب المزعومة، لكننا ندعو إلى تحجيمها أولا، وإلى أجرأتها وتعيينها بدقة (وهذا هو المهم) ثانيا. - وماذا أيضا؟ - كان لابد لنا، بعد، من اقتراح بديل عن "بُناهم التحتية" المزعومة، اقتراح يتجاوزها من خلال منهج عملي التحليل، تجريبي الدلالة والمغزى حتى تتكشف لنا حسناته (المنهج) وعيوبه، فكان اقتراحنا متمما لما بدأناه في مشروع آخر (غوردو، التمدين والسلطة، الباب الثالث) بهدف تثوير مناهج الدراسات التاريخية، اعتمادا على "رموز السلطة". - ثم ماذا؟ - تجريبية Empirisme المنهج، أي منهج، تحتاج إلى جسم (موضوع) ينبغي تشريحه، فكان "افتراس اللحوم الآدمية" ذاك الجسم، وكانت الصعوبة بالتالي مركبة أو مزدوجة: منهج جديد يقتحم فلسفة التاريخ ومناهجه، يتم تطبيقه على موضوع غريب يشذ عن سنن الخلق والتاريخ. هذا ما استهوى هذه الدراسة بالضبط، تشريح "الافتراس الآدمي" حتى الأحشاء رغبة في استجلاء الأسباب الحية المحفزة على السلوك، لا الانشغال بأشكال الهوى والسدور، لهذا فهذه دراسة خاصة نتمنى لها قارئا خاصا أيضا.