
Ashraf Mansour
Professor of Philosophy, Faculty of Arts, University of Alexandria, Egypt.Published works on Phenomenology, Critical Theory, Neo-Liberalism, Averroes and Jewish Averroism, Political Islam.
less
Related Authors
Khalil Khalil
University Farhat Abas
Ahmed M O H A M M A D Nassar
King AbdulAziz University (KAU) Jeddah, Saudi Arabia
Teldj Ali
Université de Batna, ALGERIE
Ba Toul
École nationale d'administration publique
dido madrid
Université de JIJEL
Mēd Kå
Universite Farehat Abes Setif
InterestsView All (59)
Uploads
Papers by Ashraf Mansour
ومن هنا نرى كيف أن خبرات لوك كانت متعددة للغاية، إذ بدأ بدراسة اللاهوت منذ صغره، وانتقل إلى دراسة الطب والعلوم التجريبية، ومنها إلى الفلسفة وأخيراً القانون والسياسة. وهذا هو السبب فى تعدد الموضوعات التى كتب فيها، إذ تغطى مؤلفاته الفلسفة: «مقال فى الفهم البشرى» (1690)، «رسالتان عن الحكومة المدنية» (1689)، «أفكار فى التربية» (1693)، «مقال فى التسامح» (1689 - 1692). كما أهلته دراسته للطب والعلوم التجريبية لأن يكون صاحب مذهب تجريبى فى الفلسفة.
وهكذا لم يكن لوك مقتصراً على الكتب والبحث النظرى فى الحصول على خبرته وأفكاره كمفكر، بل كان رجلاً عملياً إلى أقصى حد، أثرت رحلاته ومناصبه المختلفة التى تقلدها، من طبية إلى تجارية إلى قضائية فى فلسفته. وعلى الرغم من أن شئون الاقتصاد والسياسة كانت من صميم عمله، إلا أنها لم تمنعه من أن يصبح فيلسوفاً محترفاً. وقد اتصف لوك كفيلسوف بكل ما كان يتصف به المفكر فى ذلك العصر، إذ لم يكن كبار فلاسفة القرن السابع عشر منتمين إلى السلك الأكاديمى، فلم يتقلد لوك أى منصب جامعى ولم يُدِّرس فى أى جامعة( )، وكانت الفلسفة لديه هواية يمارسها فى أوقات فراغه من عمله الاقتصادى والسياسى والقضائى، لكنه رغماً عن ذلك أصبح من أشهر الفلاسفة الإنجليز، ويقدم لنا لوك مثالاً براقاً على فيلسوف محترف لم يتول تدريس الفلسفة فى الجامعة بل كانت الهواية التى تحولت بعد إتقانها إلى احتراف. وهذا هو ما يميز لوك وفلاسفة القرن السابع عشر، أما بعد عصر لوك ابتداءً من القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين فقد ظهر الفيلسوف المتخصص فى الفلسفة والمحترف المرتبط بالأكاديمية والذى لا ينتج نسقاً فلسفياً إلا بالتفرغ التام لها، باستثناء ديفيد هيوم بالطبع الذى تتشابه سيرته الذاتية مع سيرة لوك، وبذلك رأينا فلاسفة ارتبطوا بالأكاديمية وكانت هدفهم الوحيد، مثل كريستيان فولف، وكانط، وهيجل، ومعظم فلاسفة القرن التاسع عشر والعشرين.
ظهرت فلسفة لوك فى عصر الحرب الأهلية الإنجليزية، بين الملك والبرلمان، وكان الملك يمثل الطبقة الأرستقراطية التى كانت تهدف المحافظة على مكتسباتها الوراثية ووضعها المتميز داخل المجتمع والدولة، والبرلمان يمثل البرجوازية الصاعدة، أى طبقة التجار ورجال المال والأعمال والصناعة. انتهت هذه الحرب بانتصار البرلمان، وبتقييد سلطات الملك حتى أصبح يملك وحسب ولا يحكم. وقد اتصف ذلك العصر بالاضطراب والفوضى فى كل النواحى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وما يميز كل مرحلة انتقالية بين نظام قديم ونظام جديد. أراد لوك أن يحافظ على ثبات واستقرار المجتمع الإنجليزى، وأراد كذلك المحافظة على النتائج التى أسفرت عنها الثورة، أى الجمع بين النظام الملكى والنظام البرلمانى فى نفس الوقت( )، والمحافظة على التوازن بينهما، وبالتالى التوازن بين الأرستقراطية والبورجوازية.
ولذلك اشتهر لوك بنظريته السياسية التى تجمع فى نفس الوقت بين حق الملكية الذى يحافظ على الحقوق المتوارثة للأرستقراطية والحقوق المكتسبة حديثاً للبورجوازية، وبين مفهوم الحكومة المدنية التى تعتمد على توازن القوى وتوزيع السلطات. والحق أن هذا كان مفهوم الإنجليز عن الاستقرار، فهو توازن ومحافظة على أملاك كل الطبقات. ومن الناحية الفكرية أراد لوك مواجهة الحماس الزائد الذى يصل إلى حد التهور والملازم لصعود أى طبقة جديدة. وكان يمكن أن تؤدى مواجهة البرجوازية للسلطات الكهنوتية للكنيسة أن تعصف بالدين، ولذلك أراد لوك أن يحافظ على الإيمان وفى نفس الوقت يعبر عن نظرة البورجوازية الفكرية والمتمثلة فى اعتماد العقل حكماً فى كل شئون الحياة والخبرة التجريبية التى وضعها أساساً لفلسفته. وكان يمكن لتجريبية لوك أن تذهب به إلى حد الإطاحة بالأديان من جراء عداء كل مذهب تجريبى للأفكار المسبقة واعتماده على الخبرة التجريبية التى تكبح جماح العاطفة، وأولها العاطفة الإيمانية ؛ لكن تتميز تجريبية لوك بأنها جمعت بين عمل العقل والتجربة من جهة، وعلى الإيمان والوحى من جهة أخرى. وهذا هو جوهر الفرق بينه وبين هيوم، الذى سار على المنهج التجريبى إلى نهاياته المنطقية حيث وضع الإيمان والوحى والمعجزات تحت محكمة العقل ورفض الميتافيزيقا وقيد من سعى العقل المستمر نحو تجاوز الخبرة التجريبية فى اتجاه المثاليات. وهكذا ظهرت فلسفة لوك على أنها تضع للعقل حدوداً مزدوجة، من الخبرة التجريبية ومن الإيمان والوحى.
ومذهب لوك تجريبى لا لأنه يرفض العقل، إذ هو يضع للعقل مكاناً مركزياً فى المعرفة، بل لأنه يقيد العقل بالتجربة، وذلك عكس فلاسفة التيار العقلانى: ديكارت ولايبنتز وسبينوزا، الذى تحرر العقل عندهم من أى تجربة ووصل إلى المثالية. والحقيقة أن لوك عندما يضع الخبرة التجريبية باعتبارها المصدر الأساسى للمعرفة والضابط الأول للعقل فإنما يعبر بذلك عن الخبرة العملية للبرجوازية، ذلك لأن هذه الطبقة هى طبقة رجال التجارة والمال والأعمال والصناعة، الطبقة التى صنعت نفسها وثروتها بالانشغال فى العمليات الاقتصادية الجزئية واليومية، وهى كلها عمليات تنظر إلى العمل وإنتاج هذا العمل على أنه دعامتها الأساسية. إن الخبرة التجريبية فى فلسفة لوك هى التعبير الفلسفى والإبستمولوجى عن الخبرة العملية للبورجوازية، ورفضه للأفكار الفطرية تعبير عن رفضه الاجتماعى والاقتصادى لكل حق موروث لم يأت نتيجة للعمل وبذل الجهد والانغماس فى تفاصيل الحياة اليومية. ولذلك نرى أن وراء نظرية لوك فى المعرفة، ووراء عناصر فلسفته، يكمن موقف اجتماعى معين يعبر عن طبقة صاعدة، البورجوازية، فى مواجهة طبقة أخرى ذات حقوق موروثة، أو فطرية، وهى الأرستقراطية، وهذا هو مغزى تجريبيته ورفضه للأفكار الفطرية.
ولأن ابن رشد (1126-1198) كان آخر الفلاسفة السابقين على بن جرشوم والذي كان صاحب نظرية شهيرة في قدم العالم، أعاد بها صياغة أفكار أرسطو وأيدها بأدلة كثيرة، ولأن بن جرشوم قد أسس نظريته في الخلق على أساس نقده لأرسطو، فإننا نهدف في هذه الدراسة عقد مقارنة بين بن جرشوم وابن رشد في مسألة القدم والحدوث، محاولين تقديم رد رشدي على نظرية بن جرشوم في الخلق، وعاقدين في سياقها حواراً افتراضياً بينهما. فلو افترضنا أن ابن رشد قد قرأ كتاب بن جرشوم ونظريته في الخلق، فماذا سيكون رده عليه؟ كان سيرد عليه من داخل نظريته هو وبناءً على الحلول التي قدمها بنفسه لإشكاليات القدم والحدوث مثلما فعل ذلك في "تهافت التهافت" و"فصل المقال" و"الكشف عن مناهج الأدلة" وباقي مؤلفاته الأخرى وشروحه على أرسطو.
ونود أن نلفت الانتباه إلى أن القارئ لن يعثر في هذه الدراسة على مجرد مقارنة بين بن جرشوم وابن رشد، بل أيضاً على رؤية تحليلية فاحصة في فلسفة ابن رشد نفسها بوضعها إزاء نظرية بن جرشوم في الخلق. ذلك لأن فلسفة ابن رشد تزداد وضوحاً عند مقارنتها بالذين تأثروا بها أو خرجوا عنها؛ ويتضح النص الرشدي أكثر ويزداد عمقه وتنكشف أبعاده ومستوياته المتعددة الكامنة فيه عند وضعه في المرآة العاكسة للدراسات المقارنة. كما أن هذه الدراسة ليست منحصرة في مقارنة نظرية فيلسوف واحد فقط بابن رشد، بل تشمل مقارنة كل نظريات الخلق التي تأثر بها بن جرشوم والتي أخذ عنها أو طورها وعدلها بفلسفة ابن رشد؛ ذلك لأن بن جرشوم كان يقف وراءه تراث طويل من نظريات الخلق، الكلامية والفلسفية، ونظريات أخرى في القدم، وبالتالي فالدراسة سوف تتعرض بالضرورة لطريقة تعامل ابن رشد مع نفس التراث السابق لإشكالية القدم والحدوث والذي تعامل معه بن جرشوم. فإذا كان بن جرشوم قد استفاد من نظرية أفلاطون في الخلق من مادة أولى قديمة وفي حدوث العالم وأبديته في الوقت نفسه، فالواجب علينا البحث في موقف ابن رشد من نظرية أفلاطون هذه؛ وإذا كان بن جرشوم قد استفاد من نقد يحيى النحوي لقدم العالم – عند أرسطو وعند بروقلس – فالواجب علينا أيضاً معرفة موقف ابن رشد من يحيى النحوي وكيفية رده على اعتراضاته على نظرية القدم. وإذا كان بن جرشوم يقدم نقداً لأرسطو في قدم العالم، فالأوجب علينا معرفة كيفية دفاع ابن رشد عن أرسطو وكيفية إعادة بنائه للمذهب الأرسطي كي يكون أكثر إحكاماً في مواجهة ناقديه.
والخلاصة أن الدراسة تتوسع وتمتد إلى ما يتجاوز مجرد المقارنة، إلى استكشاف الأبعاد المتعددة لفلسفة ابن رشد، متخذة من بن جرشوم نقطة انطلاق ومحوراً يدور حوله النقاش. وسبب اختيارنا لبن جرشوم بالذات أننا نجد في كتابه إعادة بناء لنفس النظريات الكلامية الإسلامية في الخلق، وصياغة جديدة لها مدعمة بمزيد من الحجج التي نجد أصلها في علم الكلام الأشعري والذي يرجع بعضها إلى يحيى النحوي (490-570)، المصدر الأول لكل نظريات الخلق في العصر الوسيط.
وقد كانت فلسفة ابن رشد وحدها من بين أكثر الفلسفات الإسلامية تأثيراً في الفكر اليهودي، وهو التأثير الذي يفوق تأثير الفارابي وابن سينا والغزالي مجتمعين. ويرجع السبب في ذلك إلى أن فلاسفة اليهود قد وجدوا في مؤلفات ابن رشد صيغة مناسبة للتعامل مع العلاقة بين الفلسفة والدين، أو العقل والوحي. فكلما احتاج أحد الفلاسفة اليهود إلى نظرية عقلانية للعقائد الدينية وجدها في ابن رشد، وخاصة في كتبه السجالية الثلاثة: "فصل المقال"، و"الكشف عن مناهج الأدلة"، و"تهافت التهافت"؛ وكلما أراد فهماً حقيقياً لأرسطو بعيداً عن تأويلاته الأفلاطونية المحدثة المنتشرة في أعمال الفارابي وابن سينا وجدها في شروحات ابن رشد على أرسطو.
كما أن هناك سبباً آخر جعل الفلسفة الإسلامية كلها قريبة من الفكر اليهودي، وهو أن اليهودية ديانة كتابية توحيدية مثل الإسلام، بها شريعة كتابية مفصلة مثل الشريعة الإسلامية، وهذا ما تختلف فيه المسيحية عن اليهودية والإسلام معاً. وقد كان فلاسفة اليهود يشعرون بالقرب الفكري من فلاسفة الإسلام نظراً لانشغال الأخيرين بنفس القضايا التي شغلت الفكر اليهودي، وهي قضايا التوحيد والتنزيه (ومعها إشكالية التعامل مع النصوص الدينية التي تحمل في ظاهرها تشبيهاً وتجسيماً). وهنا كانت نظرية ابن رشد في التأويل مناسبة للفلاسفة اليهود؛ استخدموها في التعامل مع نصوص التوراة التي تتناقض مع العقل ومع التـنـزيه المطلق للإله؛ بحيث نستطيع القول إن ابن رشد هو الذي وضع لفلاسفة اليهود برنامجاً متكاملاً للتعامل مع النص الديني، ولضم العقائد الدينية نفسها في رؤية عقلانية أوسع للإنسان والعالم والله وللعلاقات المتبادلة بينها.
ولم تكن نظرية ابن رشد في التأويل هي وحدها المشكِّلة للأرضية المشتركة بين فلاسفة اليهود كلهم، إذ لعبت باقي نظرياته الفلسفية نفس الدور: نظرياته في قدم العالم، وفي النفس الإنسانية وإشكاليات فنائها وخلودها. وعندما نقول إن فلسفة ابن رشد شكلت الأرضية المشتركة لكل الفلاسفة اليهود، فنحن نعني بذلك أنها مثلت نقطة انطلاق تفكيرهم الفلسفي. إذ لم يستطع الفلاسفة اليهود التفلسف دون ابن رشد؛ وتحددت مواقفهم من الإشكاليات الفلسفية التقليدية في شكل مواقف من فلسفة ابن رشد. فهم سواء اتفقوا مع ابن رشد (جزئياً أو كلياً) أو اختلفوا معه (جزئياً أو كلياً) فهم كانوا ينطلقون من فلسفته هو، إما لإعادة إنتاج فكره في اتفاق معه (عن طريق تقديم براهين جديدة لأفكاره ومزيداً من الشرح عليها) أو لتقديم حجج مضادة للاختلاف عنها. وأبرز مثال على ما نقول هو فلسفة بن جرشوم وخاصة نظريته في خلود النفس.
نشهد مع ليفي بن جرشوم( ) حواراً افتراضياً بينه وبين ابن رشد، يسوده الشد والجذب، والاقتراب والابتعاد. إذ اتفق بن جرشوم مع ابن رشد في أشياء واختلف معه في أشياء. واستباقاً لما سيأتي شرحه بالتفصيل، فإن النفس الإنسانية عند بن جرشوم خالدة مثلما نجد عند ابن رشد. لكن ليست كل النفس الإنسانية خالدة عند ابن رشد، إذ أن بها قوى متعددة. هذه القوى منها ما يفنى مع البدن ومنها ما لا يفنى مع فناء البدن. وكذلك الأمر عند بن جرشوم، فليست كل النفس خالدة عنده، بل الخالد منها هو جزء واحد فقط فيها. لكن في حين أن الجزء الخالد من النفس عند ابن رشد هو العقل الهيولاني (أو المادي)، وذلك حسب ما فهمه بن جرشوم، فإن الجزء الخالد عند بن جرشوم هو العقل المستفاد، أما العقل الهيولاني فهو فاسد( ).
لكن هل نظرية ابن رشد الحقيقية هي خلود العقل الهيولاني وحده كما ذهب بن جرشوم أم أن الأخير قد أساء فهمه؟ وهل لم يقل ابن رشد بخلود العقل المستفاد كما حكى عنه بن جرشوم أم أننا نستطيع أن نعثر في نصوص ابن رشد على ما يدل على خلود العقل المستفاد؟ الحقيقة أن ابن رشد قد قال بالفعل بخلود العقل المستفاد، وذلك في شرحه الكبير على كتاب النفس لأرسطو والذي لم يكن يعرفه بن جرشوم؛ لكن حتى الشرح الأوسط لكتاب النفس يحتوي على عبارات واضحة وإن كانت قصيرة وعابرة وخاطفة تشير إلى خلود العقل المستفاد. وإذا لم يكن لدى بن جرشوم سوى هذا الشرح الأوسط فمعنى هذا أنه لم ينتبه إلى تلك الإشارات الرشدية؛ هذا بالإضافة إلى وضوح نظرية خلود العقل المستفاد في رسالة الاتصال لابن رشد. لكن مع تسليمنا بأن بن جرشوم كان يعتقد في أن الخلود عند ابن رشد هو للعقل الهيولاني وحده وأنه لم يقل بخلود العقل المستفاد، فما هي الأسباب التي دفعته لرفض خلود العقل الهيولاني والقول بخلود العقل المستفاد والدفاع عن خلود ذلك الجزء من النفس بكل الأدلة التي كان في مقدوره أن يقدمها؟ هذا هو السؤال الذي وجهنا طوال هذه الدراسة والتي تمثل في مجموعها إجابة عنه.
وعلى جانب آخر رفض بن جرشوم رأي ابن رشد في خلود العقل الهيولاني وقدم أدلة مضادة لإثبات فنائه. لكن لم يكن هذا الرفض دون خسارة؛ إذ دفع بن جرشوم تكلفة عالية جداً لإثبات ذلك الفناء، وهي تكلفة أبعدته عن ابن رشد كثيراً، وكذلك عن أرسطو، وجعلته يقترب من النظرية الصدورية للأفلاطونية المحدثة وبالتالي يعيد إنتاج بعض أفكار الفارابي وابن سينا. فرفضه للفكرة الرشدية عن خلود العقل الهيولاني أرغمته على التقهقر إلى مواقف قبل - رشدية، مواقف تجاوزها ابن رشد نفسه. وقد كان بن جرشوم مدفوعاً لذلك رغم التكلفة العالية. ومهمتنا في هذه الدراسة هي الكشف عن البواعث الدفينة التي دفعته لذلك، وعن الكيفية التي نفذ بها مشروعه.
نستطيع القول بأن فلسفة شلنج هى إعادة بناء أو تطوير لمذهب سبينوزا. ولأن القضية الأساسية في مذهب سبينوزا هى فلسفته في الهوية، أى الهوية بين الفكر والوجود داخل جوهر واحد، ولأن فلسفة الهوية هذه هى أساس مذهب وحدة الوجود الحاضر بقوة في فلسفة سبينوزا، ولأن مشروع شلنج الفلسفي كله يتمحور حول إقامة فلسفة جديدة في الهوية تعيد صياغة مذهب سبينوزا وتعالج الكثير من صعوباته وتتجنب العديد من أخطائه، فقد ركزنا في هذه الدراسة على مقارنة مفصلة بين فلسفة سبينوزا وفلسفة شلنج في الهوية، محاولين توضيح ما يدين به شلنج لسبينوزا، والنقاط التى خرج فيها عن الصورة التى جاءت بها فلسفة الهوية لدى سبينوزا، ونظرية شلنج الجديدة في المطلق وفي وحدة الوجود التى تعد تطويراً لوحدة الوجود السبينوزية.
ننطلق في هذه الدراسة من فرض نحاول إثبات صحته يقول بأن مذهب شلنج كان مقاماً على أساس أنه بديل لفلسفة سبينوزا، وحل لصعوبات وجدها في فلسفته. لقد قدم كل واحد من المثاليين الألمان انتقاداته على فلسفة سبينوزا، وعلى أساس هذه الانتقادات بنى مذهبه الخاص باعتباره البديل لمذهب سبينوزا. وما دفعهم نحو ذلك هو رغبة منهم جميعاً في بناء مذهب واحدى يؤسس للهوية المطلقة بين الفكر والوجود لكن بطريقة مختلفة عن طريقة سبينوزا. لقد وافق هؤلاء ضمنياً على النية العامة عند سبينوزا وهى تأسيس مذهب واحدى يؤسس للهوية المطلقة، لكنهم رأوا أن طريقة سبينوزا في بناء وتحقيق هذا المذهب لم تكن صحيحة، وقد احتفظوا بالنية والقصد السبينوزى العام مع تقديم مذاهب بديلة، كل واحد منها يؤسس الهوية والوحدة بطريقته الخاصة. وهدفنا الكشف عن مذهب شلنج باعتباره بديلاً جديداً لمذهب سبينوزا في الهوية. مع الأخذ في الاعتبار أن فلسفة الهوية هي الأساس الذي قام عليه مذهب وحدة الوجود، سواء لدى سبينوزا أو شلنج. ولم تكن وحدة الوجود لديهما تعني مجرد هوية بين الإله والطبيعة أو العالم، بل كانت كذلك هوية بين الفكر والوجود، والمادي والمثالي.
1. أن نقد هيجل لمجمل فلسفة سبينوزا يأتي انطلاقاً من نقده لمنهجه الهندسي؛ فهذا النقد هو، كما ستوضح الدراسة، المفتاح الأساسي لفهم مجمل موقف هيجل من فلسفة سبينوزا.
2. أن منهج هيجل الجدلي فد أقامه بالضد على منهج سبينوزا الهندسي وبالتعارض التام معه؛ بحيث نستطيع القول بأن نقطة الخلاف الأساسية بين هيجل وسبينوزا متركزة حول موقف كل منهما من المنهج ومن طريقة وضع المذهب الفلسفي وبنائه الداخلي. فمن بين أهداف هذه الدراسة توضيح كيفية بناء هيجل لمذهبه انطلاقاً من نقده واعتراضاته الكثيرة على المنهج الهندسي لسبينوزا.
3. أن التركيز على نقد هيجل لمنهج سبينوزا الهندسي هو الذي يمكننا من وضع أيدينا على الفارق الهام بين مذهبيهما من حيث المضمون، وعلى وجه الخصوص، الفروق الدقيقة بينهما فيما يتعلق بفلسفة الهوية. فإذا كان هناك اتفاق عام بين هيجل وسبينوزا حول هوية الفكر والوجود والذات والموضوع، فإن نقاط الاختلاف الدقيقة داخل هذا الاتفاق العام تلتف كلها حول المنهج، الذي يعبر لدى كل منهما عن موقف أنطولوجي خاص به وحده؛ إذ حاول سبينوزا إثبات الهوية بمنهجه الهندسي نظراً لأنه كان ينظر إليها على أنها هوية أنطولوجية موضوعية ثابتة وأزلية، وحاول هيجل إثباتها بمنهجه الجدلي نظراً لكونه ينظر إلى الهوية على أنها في حركة وحيوية وذات طابع زماني تطوري.
4. أن شلنج، الذي سبق هيجل في وضع مذهب مثالي، قد تبنى منهج سبينوزا الهندسي في عرض فلسفته وأعلن عن هذا التبني صراحة، وهذا ما ظهر واضحاً في مقاله "عرض للمذهب الفلسفي". وكان نقد هيجل لمنهج سبينوزا الهندسي نقداً غير مباشر لشلنج الذي لم يذكره هيجل في مؤلفاته (إلا في مقاليه المبكرين "الفرق بين مذهبي فشته وشلنج في الفلسفة"، و"الإيمان والمعرفة"، ثم أخيراً في "محاضرات تاريخ الفلسفة"). فنقد هيجل للمنهج الهندسي هدفه تجاوز سبينوزا وشلنج معاً، وهو ما يمثل سعي هيجل للتخلص من تأثير شلنج عليه والاستقلال بمذهب فلسفي مختلف في المثالية المطلقة. ولم يتمكن هيجل من الاستقلال عن شلنج إلا بنقد المنهج الهندسي الذي هو الميراث السبينوزي الأهم لدى شلنج.
يتشابه الوضع الفكري و الأكاديمي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين مع ذلك الوضع الذي وصفناه للنصف الثاني من القرن التاسع عشر. فالنزعات الفردية عادت إلى الظهور حتى في مجال علم الاجتماع نفسه، و أبرز مثال على ذلك اتجاه نظرية الاختيار العقلاني Rational Choice Theory والاتجاهات الفينومينولوجية و الإثنوميثودولوجية و التفاعلية الرمزية Symbolic Interactionism، بالإضافة إلى نظرية الفعل لدى بارسونز Action Theory و مدرسته و المستمرة حتى الآن؛ و هي كلها اتجاهات تحاول استخلاص كل المجتمع ببنائاته و نظمه من أفعال الأفراد و توجهاتهم المعيارية. هذا الوضع الحالي المتمثل في الصعود الجديد للنزعة الفردية يصاحبه صعود آخر للنزعة النفعية التي تتجسد في سيطرة المنظور الاقتصادي، بل والاستهلاكي، على العلوم الاجتماعية، و طغيان الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي على علم الاجتماع وتراثه النظري. فأصبحنا نرى الآن تزايدا في الاهتمام بنظريات اجتماعية و سياسية من صنع الاقتصاديين أمثال فون ميسز Von Mises و فريدريك هايك Hayek وميلتون فريدمان Friedman ، و ذلك في ظل انسحاب رواد علم الاجتماع ونظرياتهم إلى الظل. و هذا ما أدى إلى حلول الليبرالية الاقتصادية محل المنظور السوسيولوجي الأصيل.
إن هذا الوضع يدفعنا نحو إعادة قراءة التراث السوسيولوجي عند لحظة تأسيس علم الاجتماع، فهذا التراث، و عند لحظة تأسيسه بالذات، واجه النزعات الفردية والنفعية بنجاح، و كذلك واجه الليبرالية الاقتصادية و أسس علم الاجتماع في مواجهة الاقتصاد السياسي. وأبرز مؤسسي علم الاجتماع الذين يتضح في أعمالهم هذا الجانب الناقد للفردية و النفعية هو دوركايم. ونظرا لتشابه الوضع الفكري والأكاديمي بين عصر دوركايم وعصرنا نستطيع القول أن دوركايم لا يزال معاصرا لنا، بمعنى أن نظريته السوسيولوجية لا تزال قادرة على إلهامنا بأفكار ومواقف نستطيع بها الوقوف أمام الصياغات العلمية المعاصرة للنزعات الفردية والنفعية وأمام طغيان المنظور الاقتصادي على العلم الاجتماعي.
ولا نجد لدى هايك نقدا وهجوما على مفهوم العدالة الاجتماعية وحسب – إذ يصفها بأنها وهم، وهذا هو عنوان أحد أشهر مؤلفاته "وهم العدالة الاجتماعية"- بل نجد كذلك إنكاراً لبعض أهم مبادئ العلم الاجتماعي؛ إذ ينكر وجود شئ اسمه المجتمع من الأساس، ويذهب إلى أن كل ما هنالك مجرد أفراد يرتبطون معاً بعلاقات هي في جوهرها علاقات اقتصادية تُرد في النهاية إلى معاملات السوق. ومع إنكار هايك للمجتمع وتشكيكه في أن يكون مقولة تفسيرية مستقلة للظواهر الاجتماعية، يصبح بذلك المدافع الأيديولوجي الهام والأخطر عن الرأسمالية غير المقيدة وغير الملتزمة بأي مسؤوليات اجتماعية.
هذه الصلاة الجماعية هي التي تجعل من المسلمين مجتمعاً، ليس مجتمعاً معنوياً بل مجتمعاً مادياً بوصفه كتلة أو حشداً بشرياً mass.
تتناول هذه الدراسة أثر كتاب "فصل المقال" في الفلسفة اليهودية، عبر ثلاثة من الفلاسفة اليهود. أولهم هو يوسف بن يهوذا (1150 – 1220)، تلميذ موسى بن ميمون، والذي تكشف مراسلاته مع أستاذه عن معرفتهما الجيدة بكتاب ابن رشد، وعن أثر لهذا الكتاب في كتاب ابن ميمون "دلالة الحائرين". وثانيهما هو شيم طوب بن فالاقيرا (1225 – 1290)، الفيلسوف والشاعر اليهودي الأسباني الذي يعد من أوائل الرشديين اليهود. وضع فالاقيرا كتاباً صغيراً يسمى "رسالة في النزاع بين الدين والفلسفة"، يمثل إعادة تأليف لكتاب "فصل المقال"، يدافع فيه عن الحق في التفلسف بحجج دينية مستخدماً نفس منهج ابن رشد في التبرير الديني الفقهي للفلسفة، وفي كتاب فالاقيرا العديد من العبارات المتطابقة تماماً مع عبارات لابن رشد في "فصل المقال". أما ثالثهم فهو إليشع دل مديجو (1458 – 1493)، الفيلسوف اليهودي الذي تنقل بين كريت وروما وبادوا، والذي يقال عنه إنه آخر الرشديين اليهود. ونظراً للهجوم الذي تعرضت له الفلسفة من قبل التيارات الأصولية اليهودية في عصره، والهجوم الشخصي عليه بسبب رشديته، لم يجد إلا العودة لكتاب "فصل المقال" ليعيد إنتاجه مرة أخرى، بعد فالاقيرا، وكتب على أساسه ووفق نموذجه كتابه الشهير "فحص الدين"، الذي يبرر فيه الاشتغال بالفلسفة من وجهة نظر الدين اليهودي.
تخلص الدراسة إلى أن ظاهرة الرشدية اليهودية لم تكن ممكنة إلا بإدماج كتاب "فصل المقال" داخل الفلسفة اليهودية، وجعله جزءاً أساسياً من التعليم الفلسفي لدى يهود العصور الوسطى وعصر النهضة. فهذا الإدماج هو ما يميزها، في مقابل تجاهل اللاتين لكتاب "فصل المقال"، مما جعل الرشدية اللاتينية غير دقيقة في تعبيرها عن فلسفة ابن رشد، في حين كانت الرشدية اليهودية أقرب إليها وأوضح في تعبيرها عن روح الفلسفة الرشدية.
One of the central concerns of Ibn Rushd (Averroes, d. 595/1198) in his commentaries on Aristotle was defending the theory of Eternity. This theory in Aristotle took the form of the eternal motion of the celestial sphere and its bodies. John Philoponus in his critique of Eternity tried to use one of Aristotle's natural principles to refute his theory of the eternal motion of the celestial body. Philoponus reasoned that every body is finite and thus has finite force, so the celestial bodies cannot have infinite force, and, thus, their rotation could not be eternal. Ibn Rushd tried, in various ways and in many places of his commentaries, to defend the eternal rotation of the heavens, by refuting Philoponus' argument. We can divide Ibn Rushd's solution into a dialectical approach and a demonstrative approach. Dialectically, Ibn Rushd provided some principles that paved the way to convince the reader of the thesis of Eternity itself. He proved that it is not in contradiction with the ideas of the unity of God, of His omnipotence and of His nature as the sole Creator. Ibn Rushd went on to reason that God as an infinite cause could not be proven except by positing infinite causes in circular motion, on the premise that an infinite cause must by necessity produce infinite effects. In this way the eternal rotation of the heavens is the immediate effect of God’s infinite causality. Demonstratively, Ibn Rushd proves that Aristotle’s principle of the finite force in the body is correct in all ways if that body is sublunary; but if it is a celestial body, its force is finite in one respect, infinite in another. It is finite in intensity and speed, moving just one body with a definite magnitude and with a regular fixed speed; it is also infinite in time, that is, it moves the celestial body in infinite time. Ibn Rushd tried to prove that the force of the celestial body is infinite in time in itself and by its nature in many ways, such as proving that this nature is characterized by some distinctive features: it is not composed of matter and form similar to sublunary bodies, its matter is eternal because it is simple and lacks contraries, and its form is just its circular motion.
ومن هنا نرى كيف أن خبرات لوك كانت متعددة للغاية، إذ بدأ بدراسة اللاهوت منذ صغره، وانتقل إلى دراسة الطب والعلوم التجريبية، ومنها إلى الفلسفة وأخيراً القانون والسياسة. وهذا هو السبب فى تعدد الموضوعات التى كتب فيها، إذ تغطى مؤلفاته الفلسفة: «مقال فى الفهم البشرى» (1690)، «رسالتان عن الحكومة المدنية» (1689)، «أفكار فى التربية» (1693)، «مقال فى التسامح» (1689 - 1692). كما أهلته دراسته للطب والعلوم التجريبية لأن يكون صاحب مذهب تجريبى فى الفلسفة.
وهكذا لم يكن لوك مقتصراً على الكتب والبحث النظرى فى الحصول على خبرته وأفكاره كمفكر، بل كان رجلاً عملياً إلى أقصى حد، أثرت رحلاته ومناصبه المختلفة التى تقلدها، من طبية إلى تجارية إلى قضائية فى فلسفته. وعلى الرغم من أن شئون الاقتصاد والسياسة كانت من صميم عمله، إلا أنها لم تمنعه من أن يصبح فيلسوفاً محترفاً. وقد اتصف لوك كفيلسوف بكل ما كان يتصف به المفكر فى ذلك العصر، إذ لم يكن كبار فلاسفة القرن السابع عشر منتمين إلى السلك الأكاديمى، فلم يتقلد لوك أى منصب جامعى ولم يُدِّرس فى أى جامعة( )، وكانت الفلسفة لديه هواية يمارسها فى أوقات فراغه من عمله الاقتصادى والسياسى والقضائى، لكنه رغماً عن ذلك أصبح من أشهر الفلاسفة الإنجليز، ويقدم لنا لوك مثالاً براقاً على فيلسوف محترف لم يتول تدريس الفلسفة فى الجامعة بل كانت الهواية التى تحولت بعد إتقانها إلى احتراف. وهذا هو ما يميز لوك وفلاسفة القرن السابع عشر، أما بعد عصر لوك ابتداءً من القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين فقد ظهر الفيلسوف المتخصص فى الفلسفة والمحترف المرتبط بالأكاديمية والذى لا ينتج نسقاً فلسفياً إلا بالتفرغ التام لها، باستثناء ديفيد هيوم بالطبع الذى تتشابه سيرته الذاتية مع سيرة لوك، وبذلك رأينا فلاسفة ارتبطوا بالأكاديمية وكانت هدفهم الوحيد، مثل كريستيان فولف، وكانط، وهيجل، ومعظم فلاسفة القرن التاسع عشر والعشرين.
ظهرت فلسفة لوك فى عصر الحرب الأهلية الإنجليزية، بين الملك والبرلمان، وكان الملك يمثل الطبقة الأرستقراطية التى كانت تهدف المحافظة على مكتسباتها الوراثية ووضعها المتميز داخل المجتمع والدولة، والبرلمان يمثل البرجوازية الصاعدة، أى طبقة التجار ورجال المال والأعمال والصناعة. انتهت هذه الحرب بانتصار البرلمان، وبتقييد سلطات الملك حتى أصبح يملك وحسب ولا يحكم. وقد اتصف ذلك العصر بالاضطراب والفوضى فى كل النواحى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وما يميز كل مرحلة انتقالية بين نظام قديم ونظام جديد. أراد لوك أن يحافظ على ثبات واستقرار المجتمع الإنجليزى، وأراد كذلك المحافظة على النتائج التى أسفرت عنها الثورة، أى الجمع بين النظام الملكى والنظام البرلمانى فى نفس الوقت( )، والمحافظة على التوازن بينهما، وبالتالى التوازن بين الأرستقراطية والبورجوازية.
ولذلك اشتهر لوك بنظريته السياسية التى تجمع فى نفس الوقت بين حق الملكية الذى يحافظ على الحقوق المتوارثة للأرستقراطية والحقوق المكتسبة حديثاً للبورجوازية، وبين مفهوم الحكومة المدنية التى تعتمد على توازن القوى وتوزيع السلطات. والحق أن هذا كان مفهوم الإنجليز عن الاستقرار، فهو توازن ومحافظة على أملاك كل الطبقات. ومن الناحية الفكرية أراد لوك مواجهة الحماس الزائد الذى يصل إلى حد التهور والملازم لصعود أى طبقة جديدة. وكان يمكن أن تؤدى مواجهة البرجوازية للسلطات الكهنوتية للكنيسة أن تعصف بالدين، ولذلك أراد لوك أن يحافظ على الإيمان وفى نفس الوقت يعبر عن نظرة البورجوازية الفكرية والمتمثلة فى اعتماد العقل حكماً فى كل شئون الحياة والخبرة التجريبية التى وضعها أساساً لفلسفته. وكان يمكن لتجريبية لوك أن تذهب به إلى حد الإطاحة بالأديان من جراء عداء كل مذهب تجريبى للأفكار المسبقة واعتماده على الخبرة التجريبية التى تكبح جماح العاطفة، وأولها العاطفة الإيمانية ؛ لكن تتميز تجريبية لوك بأنها جمعت بين عمل العقل والتجربة من جهة، وعلى الإيمان والوحى من جهة أخرى. وهذا هو جوهر الفرق بينه وبين هيوم، الذى سار على المنهج التجريبى إلى نهاياته المنطقية حيث وضع الإيمان والوحى والمعجزات تحت محكمة العقل ورفض الميتافيزيقا وقيد من سعى العقل المستمر نحو تجاوز الخبرة التجريبية فى اتجاه المثاليات. وهكذا ظهرت فلسفة لوك على أنها تضع للعقل حدوداً مزدوجة، من الخبرة التجريبية ومن الإيمان والوحى.
ومذهب لوك تجريبى لا لأنه يرفض العقل، إذ هو يضع للعقل مكاناً مركزياً فى المعرفة، بل لأنه يقيد العقل بالتجربة، وذلك عكس فلاسفة التيار العقلانى: ديكارت ولايبنتز وسبينوزا، الذى تحرر العقل عندهم من أى تجربة ووصل إلى المثالية. والحقيقة أن لوك عندما يضع الخبرة التجريبية باعتبارها المصدر الأساسى للمعرفة والضابط الأول للعقل فإنما يعبر بذلك عن الخبرة العملية للبرجوازية، ذلك لأن هذه الطبقة هى طبقة رجال التجارة والمال والأعمال والصناعة، الطبقة التى صنعت نفسها وثروتها بالانشغال فى العمليات الاقتصادية الجزئية واليومية، وهى كلها عمليات تنظر إلى العمل وإنتاج هذا العمل على أنه دعامتها الأساسية. إن الخبرة التجريبية فى فلسفة لوك هى التعبير الفلسفى والإبستمولوجى عن الخبرة العملية للبورجوازية، ورفضه للأفكار الفطرية تعبير عن رفضه الاجتماعى والاقتصادى لكل حق موروث لم يأت نتيجة للعمل وبذل الجهد والانغماس فى تفاصيل الحياة اليومية. ولذلك نرى أن وراء نظرية لوك فى المعرفة، ووراء عناصر فلسفته، يكمن موقف اجتماعى معين يعبر عن طبقة صاعدة، البورجوازية، فى مواجهة طبقة أخرى ذات حقوق موروثة، أو فطرية، وهى الأرستقراطية، وهذا هو مغزى تجريبيته ورفضه للأفكار الفطرية.
ولأن ابن رشد (1126-1198) كان آخر الفلاسفة السابقين على بن جرشوم والذي كان صاحب نظرية شهيرة في قدم العالم، أعاد بها صياغة أفكار أرسطو وأيدها بأدلة كثيرة، ولأن بن جرشوم قد أسس نظريته في الخلق على أساس نقده لأرسطو، فإننا نهدف في هذه الدراسة عقد مقارنة بين بن جرشوم وابن رشد في مسألة القدم والحدوث، محاولين تقديم رد رشدي على نظرية بن جرشوم في الخلق، وعاقدين في سياقها حواراً افتراضياً بينهما. فلو افترضنا أن ابن رشد قد قرأ كتاب بن جرشوم ونظريته في الخلق، فماذا سيكون رده عليه؟ كان سيرد عليه من داخل نظريته هو وبناءً على الحلول التي قدمها بنفسه لإشكاليات القدم والحدوث مثلما فعل ذلك في "تهافت التهافت" و"فصل المقال" و"الكشف عن مناهج الأدلة" وباقي مؤلفاته الأخرى وشروحه على أرسطو.
ونود أن نلفت الانتباه إلى أن القارئ لن يعثر في هذه الدراسة على مجرد مقارنة بين بن جرشوم وابن رشد، بل أيضاً على رؤية تحليلية فاحصة في فلسفة ابن رشد نفسها بوضعها إزاء نظرية بن جرشوم في الخلق. ذلك لأن فلسفة ابن رشد تزداد وضوحاً عند مقارنتها بالذين تأثروا بها أو خرجوا عنها؛ ويتضح النص الرشدي أكثر ويزداد عمقه وتنكشف أبعاده ومستوياته المتعددة الكامنة فيه عند وضعه في المرآة العاكسة للدراسات المقارنة. كما أن هذه الدراسة ليست منحصرة في مقارنة نظرية فيلسوف واحد فقط بابن رشد، بل تشمل مقارنة كل نظريات الخلق التي تأثر بها بن جرشوم والتي أخذ عنها أو طورها وعدلها بفلسفة ابن رشد؛ ذلك لأن بن جرشوم كان يقف وراءه تراث طويل من نظريات الخلق، الكلامية والفلسفية، ونظريات أخرى في القدم، وبالتالي فالدراسة سوف تتعرض بالضرورة لطريقة تعامل ابن رشد مع نفس التراث السابق لإشكالية القدم والحدوث والذي تعامل معه بن جرشوم. فإذا كان بن جرشوم قد استفاد من نظرية أفلاطون في الخلق من مادة أولى قديمة وفي حدوث العالم وأبديته في الوقت نفسه، فالواجب علينا البحث في موقف ابن رشد من نظرية أفلاطون هذه؛ وإذا كان بن جرشوم قد استفاد من نقد يحيى النحوي لقدم العالم – عند أرسطو وعند بروقلس – فالواجب علينا أيضاً معرفة موقف ابن رشد من يحيى النحوي وكيفية رده على اعتراضاته على نظرية القدم. وإذا كان بن جرشوم يقدم نقداً لأرسطو في قدم العالم، فالأوجب علينا معرفة كيفية دفاع ابن رشد عن أرسطو وكيفية إعادة بنائه للمذهب الأرسطي كي يكون أكثر إحكاماً في مواجهة ناقديه.
والخلاصة أن الدراسة تتوسع وتمتد إلى ما يتجاوز مجرد المقارنة، إلى استكشاف الأبعاد المتعددة لفلسفة ابن رشد، متخذة من بن جرشوم نقطة انطلاق ومحوراً يدور حوله النقاش. وسبب اختيارنا لبن جرشوم بالذات أننا نجد في كتابه إعادة بناء لنفس النظريات الكلامية الإسلامية في الخلق، وصياغة جديدة لها مدعمة بمزيد من الحجج التي نجد أصلها في علم الكلام الأشعري والذي يرجع بعضها إلى يحيى النحوي (490-570)، المصدر الأول لكل نظريات الخلق في العصر الوسيط.
وقد كانت فلسفة ابن رشد وحدها من بين أكثر الفلسفات الإسلامية تأثيراً في الفكر اليهودي، وهو التأثير الذي يفوق تأثير الفارابي وابن سينا والغزالي مجتمعين. ويرجع السبب في ذلك إلى أن فلاسفة اليهود قد وجدوا في مؤلفات ابن رشد صيغة مناسبة للتعامل مع العلاقة بين الفلسفة والدين، أو العقل والوحي. فكلما احتاج أحد الفلاسفة اليهود إلى نظرية عقلانية للعقائد الدينية وجدها في ابن رشد، وخاصة في كتبه السجالية الثلاثة: "فصل المقال"، و"الكشف عن مناهج الأدلة"، و"تهافت التهافت"؛ وكلما أراد فهماً حقيقياً لأرسطو بعيداً عن تأويلاته الأفلاطونية المحدثة المنتشرة في أعمال الفارابي وابن سينا وجدها في شروحات ابن رشد على أرسطو.
كما أن هناك سبباً آخر جعل الفلسفة الإسلامية كلها قريبة من الفكر اليهودي، وهو أن اليهودية ديانة كتابية توحيدية مثل الإسلام، بها شريعة كتابية مفصلة مثل الشريعة الإسلامية، وهذا ما تختلف فيه المسيحية عن اليهودية والإسلام معاً. وقد كان فلاسفة اليهود يشعرون بالقرب الفكري من فلاسفة الإسلام نظراً لانشغال الأخيرين بنفس القضايا التي شغلت الفكر اليهودي، وهي قضايا التوحيد والتنزيه (ومعها إشكالية التعامل مع النصوص الدينية التي تحمل في ظاهرها تشبيهاً وتجسيماً). وهنا كانت نظرية ابن رشد في التأويل مناسبة للفلاسفة اليهود؛ استخدموها في التعامل مع نصوص التوراة التي تتناقض مع العقل ومع التـنـزيه المطلق للإله؛ بحيث نستطيع القول إن ابن رشد هو الذي وضع لفلاسفة اليهود برنامجاً متكاملاً للتعامل مع النص الديني، ولضم العقائد الدينية نفسها في رؤية عقلانية أوسع للإنسان والعالم والله وللعلاقات المتبادلة بينها.
ولم تكن نظرية ابن رشد في التأويل هي وحدها المشكِّلة للأرضية المشتركة بين فلاسفة اليهود كلهم، إذ لعبت باقي نظرياته الفلسفية نفس الدور: نظرياته في قدم العالم، وفي النفس الإنسانية وإشكاليات فنائها وخلودها. وعندما نقول إن فلسفة ابن رشد شكلت الأرضية المشتركة لكل الفلاسفة اليهود، فنحن نعني بذلك أنها مثلت نقطة انطلاق تفكيرهم الفلسفي. إذ لم يستطع الفلاسفة اليهود التفلسف دون ابن رشد؛ وتحددت مواقفهم من الإشكاليات الفلسفية التقليدية في شكل مواقف من فلسفة ابن رشد. فهم سواء اتفقوا مع ابن رشد (جزئياً أو كلياً) أو اختلفوا معه (جزئياً أو كلياً) فهم كانوا ينطلقون من فلسفته هو، إما لإعادة إنتاج فكره في اتفاق معه (عن طريق تقديم براهين جديدة لأفكاره ومزيداً من الشرح عليها) أو لتقديم حجج مضادة للاختلاف عنها. وأبرز مثال على ما نقول هو فلسفة بن جرشوم وخاصة نظريته في خلود النفس.
نشهد مع ليفي بن جرشوم( ) حواراً افتراضياً بينه وبين ابن رشد، يسوده الشد والجذب، والاقتراب والابتعاد. إذ اتفق بن جرشوم مع ابن رشد في أشياء واختلف معه في أشياء. واستباقاً لما سيأتي شرحه بالتفصيل، فإن النفس الإنسانية عند بن جرشوم خالدة مثلما نجد عند ابن رشد. لكن ليست كل النفس الإنسانية خالدة عند ابن رشد، إذ أن بها قوى متعددة. هذه القوى منها ما يفنى مع البدن ومنها ما لا يفنى مع فناء البدن. وكذلك الأمر عند بن جرشوم، فليست كل النفس خالدة عنده، بل الخالد منها هو جزء واحد فقط فيها. لكن في حين أن الجزء الخالد من النفس عند ابن رشد هو العقل الهيولاني (أو المادي)، وذلك حسب ما فهمه بن جرشوم، فإن الجزء الخالد عند بن جرشوم هو العقل المستفاد، أما العقل الهيولاني فهو فاسد( ).
لكن هل نظرية ابن رشد الحقيقية هي خلود العقل الهيولاني وحده كما ذهب بن جرشوم أم أن الأخير قد أساء فهمه؟ وهل لم يقل ابن رشد بخلود العقل المستفاد كما حكى عنه بن جرشوم أم أننا نستطيع أن نعثر في نصوص ابن رشد على ما يدل على خلود العقل المستفاد؟ الحقيقة أن ابن رشد قد قال بالفعل بخلود العقل المستفاد، وذلك في شرحه الكبير على كتاب النفس لأرسطو والذي لم يكن يعرفه بن جرشوم؛ لكن حتى الشرح الأوسط لكتاب النفس يحتوي على عبارات واضحة وإن كانت قصيرة وعابرة وخاطفة تشير إلى خلود العقل المستفاد. وإذا لم يكن لدى بن جرشوم سوى هذا الشرح الأوسط فمعنى هذا أنه لم ينتبه إلى تلك الإشارات الرشدية؛ هذا بالإضافة إلى وضوح نظرية خلود العقل المستفاد في رسالة الاتصال لابن رشد. لكن مع تسليمنا بأن بن جرشوم كان يعتقد في أن الخلود عند ابن رشد هو للعقل الهيولاني وحده وأنه لم يقل بخلود العقل المستفاد، فما هي الأسباب التي دفعته لرفض خلود العقل الهيولاني والقول بخلود العقل المستفاد والدفاع عن خلود ذلك الجزء من النفس بكل الأدلة التي كان في مقدوره أن يقدمها؟ هذا هو السؤال الذي وجهنا طوال هذه الدراسة والتي تمثل في مجموعها إجابة عنه.
وعلى جانب آخر رفض بن جرشوم رأي ابن رشد في خلود العقل الهيولاني وقدم أدلة مضادة لإثبات فنائه. لكن لم يكن هذا الرفض دون خسارة؛ إذ دفع بن جرشوم تكلفة عالية جداً لإثبات ذلك الفناء، وهي تكلفة أبعدته عن ابن رشد كثيراً، وكذلك عن أرسطو، وجعلته يقترب من النظرية الصدورية للأفلاطونية المحدثة وبالتالي يعيد إنتاج بعض أفكار الفارابي وابن سينا. فرفضه للفكرة الرشدية عن خلود العقل الهيولاني أرغمته على التقهقر إلى مواقف قبل - رشدية، مواقف تجاوزها ابن رشد نفسه. وقد كان بن جرشوم مدفوعاً لذلك رغم التكلفة العالية. ومهمتنا في هذه الدراسة هي الكشف عن البواعث الدفينة التي دفعته لذلك، وعن الكيفية التي نفذ بها مشروعه.
نستطيع القول بأن فلسفة شلنج هى إعادة بناء أو تطوير لمذهب سبينوزا. ولأن القضية الأساسية في مذهب سبينوزا هى فلسفته في الهوية، أى الهوية بين الفكر والوجود داخل جوهر واحد، ولأن فلسفة الهوية هذه هى أساس مذهب وحدة الوجود الحاضر بقوة في فلسفة سبينوزا، ولأن مشروع شلنج الفلسفي كله يتمحور حول إقامة فلسفة جديدة في الهوية تعيد صياغة مذهب سبينوزا وتعالج الكثير من صعوباته وتتجنب العديد من أخطائه، فقد ركزنا في هذه الدراسة على مقارنة مفصلة بين فلسفة سبينوزا وفلسفة شلنج في الهوية، محاولين توضيح ما يدين به شلنج لسبينوزا، والنقاط التى خرج فيها عن الصورة التى جاءت بها فلسفة الهوية لدى سبينوزا، ونظرية شلنج الجديدة في المطلق وفي وحدة الوجود التى تعد تطويراً لوحدة الوجود السبينوزية.
ننطلق في هذه الدراسة من فرض نحاول إثبات صحته يقول بأن مذهب شلنج كان مقاماً على أساس أنه بديل لفلسفة سبينوزا، وحل لصعوبات وجدها في فلسفته. لقد قدم كل واحد من المثاليين الألمان انتقاداته على فلسفة سبينوزا، وعلى أساس هذه الانتقادات بنى مذهبه الخاص باعتباره البديل لمذهب سبينوزا. وما دفعهم نحو ذلك هو رغبة منهم جميعاً في بناء مذهب واحدى يؤسس للهوية المطلقة بين الفكر والوجود لكن بطريقة مختلفة عن طريقة سبينوزا. لقد وافق هؤلاء ضمنياً على النية العامة عند سبينوزا وهى تأسيس مذهب واحدى يؤسس للهوية المطلقة، لكنهم رأوا أن طريقة سبينوزا في بناء وتحقيق هذا المذهب لم تكن صحيحة، وقد احتفظوا بالنية والقصد السبينوزى العام مع تقديم مذاهب بديلة، كل واحد منها يؤسس الهوية والوحدة بطريقته الخاصة. وهدفنا الكشف عن مذهب شلنج باعتباره بديلاً جديداً لمذهب سبينوزا في الهوية. مع الأخذ في الاعتبار أن فلسفة الهوية هي الأساس الذي قام عليه مذهب وحدة الوجود، سواء لدى سبينوزا أو شلنج. ولم تكن وحدة الوجود لديهما تعني مجرد هوية بين الإله والطبيعة أو العالم، بل كانت كذلك هوية بين الفكر والوجود، والمادي والمثالي.
1. أن نقد هيجل لمجمل فلسفة سبينوزا يأتي انطلاقاً من نقده لمنهجه الهندسي؛ فهذا النقد هو، كما ستوضح الدراسة، المفتاح الأساسي لفهم مجمل موقف هيجل من فلسفة سبينوزا.
2. أن منهج هيجل الجدلي فد أقامه بالضد على منهج سبينوزا الهندسي وبالتعارض التام معه؛ بحيث نستطيع القول بأن نقطة الخلاف الأساسية بين هيجل وسبينوزا متركزة حول موقف كل منهما من المنهج ومن طريقة وضع المذهب الفلسفي وبنائه الداخلي. فمن بين أهداف هذه الدراسة توضيح كيفية بناء هيجل لمذهبه انطلاقاً من نقده واعتراضاته الكثيرة على المنهج الهندسي لسبينوزا.
3. أن التركيز على نقد هيجل لمنهج سبينوزا الهندسي هو الذي يمكننا من وضع أيدينا على الفارق الهام بين مذهبيهما من حيث المضمون، وعلى وجه الخصوص، الفروق الدقيقة بينهما فيما يتعلق بفلسفة الهوية. فإذا كان هناك اتفاق عام بين هيجل وسبينوزا حول هوية الفكر والوجود والذات والموضوع، فإن نقاط الاختلاف الدقيقة داخل هذا الاتفاق العام تلتف كلها حول المنهج، الذي يعبر لدى كل منهما عن موقف أنطولوجي خاص به وحده؛ إذ حاول سبينوزا إثبات الهوية بمنهجه الهندسي نظراً لأنه كان ينظر إليها على أنها هوية أنطولوجية موضوعية ثابتة وأزلية، وحاول هيجل إثباتها بمنهجه الجدلي نظراً لكونه ينظر إلى الهوية على أنها في حركة وحيوية وذات طابع زماني تطوري.
4. أن شلنج، الذي سبق هيجل في وضع مذهب مثالي، قد تبنى منهج سبينوزا الهندسي في عرض فلسفته وأعلن عن هذا التبني صراحة، وهذا ما ظهر واضحاً في مقاله "عرض للمذهب الفلسفي". وكان نقد هيجل لمنهج سبينوزا الهندسي نقداً غير مباشر لشلنج الذي لم يذكره هيجل في مؤلفاته (إلا في مقاليه المبكرين "الفرق بين مذهبي فشته وشلنج في الفلسفة"، و"الإيمان والمعرفة"، ثم أخيراً في "محاضرات تاريخ الفلسفة"). فنقد هيجل للمنهج الهندسي هدفه تجاوز سبينوزا وشلنج معاً، وهو ما يمثل سعي هيجل للتخلص من تأثير شلنج عليه والاستقلال بمذهب فلسفي مختلف في المثالية المطلقة. ولم يتمكن هيجل من الاستقلال عن شلنج إلا بنقد المنهج الهندسي الذي هو الميراث السبينوزي الأهم لدى شلنج.
يتشابه الوضع الفكري و الأكاديمي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين مع ذلك الوضع الذي وصفناه للنصف الثاني من القرن التاسع عشر. فالنزعات الفردية عادت إلى الظهور حتى في مجال علم الاجتماع نفسه، و أبرز مثال على ذلك اتجاه نظرية الاختيار العقلاني Rational Choice Theory والاتجاهات الفينومينولوجية و الإثنوميثودولوجية و التفاعلية الرمزية Symbolic Interactionism، بالإضافة إلى نظرية الفعل لدى بارسونز Action Theory و مدرسته و المستمرة حتى الآن؛ و هي كلها اتجاهات تحاول استخلاص كل المجتمع ببنائاته و نظمه من أفعال الأفراد و توجهاتهم المعيارية. هذا الوضع الحالي المتمثل في الصعود الجديد للنزعة الفردية يصاحبه صعود آخر للنزعة النفعية التي تتجسد في سيطرة المنظور الاقتصادي، بل والاستهلاكي، على العلوم الاجتماعية، و طغيان الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي على علم الاجتماع وتراثه النظري. فأصبحنا نرى الآن تزايدا في الاهتمام بنظريات اجتماعية و سياسية من صنع الاقتصاديين أمثال فون ميسز Von Mises و فريدريك هايك Hayek وميلتون فريدمان Friedman ، و ذلك في ظل انسحاب رواد علم الاجتماع ونظرياتهم إلى الظل. و هذا ما أدى إلى حلول الليبرالية الاقتصادية محل المنظور السوسيولوجي الأصيل.
إن هذا الوضع يدفعنا نحو إعادة قراءة التراث السوسيولوجي عند لحظة تأسيس علم الاجتماع، فهذا التراث، و عند لحظة تأسيسه بالذات، واجه النزعات الفردية والنفعية بنجاح، و كذلك واجه الليبرالية الاقتصادية و أسس علم الاجتماع في مواجهة الاقتصاد السياسي. وأبرز مؤسسي علم الاجتماع الذين يتضح في أعمالهم هذا الجانب الناقد للفردية و النفعية هو دوركايم. ونظرا لتشابه الوضع الفكري والأكاديمي بين عصر دوركايم وعصرنا نستطيع القول أن دوركايم لا يزال معاصرا لنا، بمعنى أن نظريته السوسيولوجية لا تزال قادرة على إلهامنا بأفكار ومواقف نستطيع بها الوقوف أمام الصياغات العلمية المعاصرة للنزعات الفردية والنفعية وأمام طغيان المنظور الاقتصادي على العلم الاجتماعي.
ولا نجد لدى هايك نقدا وهجوما على مفهوم العدالة الاجتماعية وحسب – إذ يصفها بأنها وهم، وهذا هو عنوان أحد أشهر مؤلفاته "وهم العدالة الاجتماعية"- بل نجد كذلك إنكاراً لبعض أهم مبادئ العلم الاجتماعي؛ إذ ينكر وجود شئ اسمه المجتمع من الأساس، ويذهب إلى أن كل ما هنالك مجرد أفراد يرتبطون معاً بعلاقات هي في جوهرها علاقات اقتصادية تُرد في النهاية إلى معاملات السوق. ومع إنكار هايك للمجتمع وتشكيكه في أن يكون مقولة تفسيرية مستقلة للظواهر الاجتماعية، يصبح بذلك المدافع الأيديولوجي الهام والأخطر عن الرأسمالية غير المقيدة وغير الملتزمة بأي مسؤوليات اجتماعية.
هذه الصلاة الجماعية هي التي تجعل من المسلمين مجتمعاً، ليس مجتمعاً معنوياً بل مجتمعاً مادياً بوصفه كتلة أو حشداً بشرياً mass.
تتناول هذه الدراسة أثر كتاب "فصل المقال" في الفلسفة اليهودية، عبر ثلاثة من الفلاسفة اليهود. أولهم هو يوسف بن يهوذا (1150 – 1220)، تلميذ موسى بن ميمون، والذي تكشف مراسلاته مع أستاذه عن معرفتهما الجيدة بكتاب ابن رشد، وعن أثر لهذا الكتاب في كتاب ابن ميمون "دلالة الحائرين". وثانيهما هو شيم طوب بن فالاقيرا (1225 – 1290)، الفيلسوف والشاعر اليهودي الأسباني الذي يعد من أوائل الرشديين اليهود. وضع فالاقيرا كتاباً صغيراً يسمى "رسالة في النزاع بين الدين والفلسفة"، يمثل إعادة تأليف لكتاب "فصل المقال"، يدافع فيه عن الحق في التفلسف بحجج دينية مستخدماً نفس منهج ابن رشد في التبرير الديني الفقهي للفلسفة، وفي كتاب فالاقيرا العديد من العبارات المتطابقة تماماً مع عبارات لابن رشد في "فصل المقال". أما ثالثهم فهو إليشع دل مديجو (1458 – 1493)، الفيلسوف اليهودي الذي تنقل بين كريت وروما وبادوا، والذي يقال عنه إنه آخر الرشديين اليهود. ونظراً للهجوم الذي تعرضت له الفلسفة من قبل التيارات الأصولية اليهودية في عصره، والهجوم الشخصي عليه بسبب رشديته، لم يجد إلا العودة لكتاب "فصل المقال" ليعيد إنتاجه مرة أخرى، بعد فالاقيرا، وكتب على أساسه ووفق نموذجه كتابه الشهير "فحص الدين"، الذي يبرر فيه الاشتغال بالفلسفة من وجهة نظر الدين اليهودي.
تخلص الدراسة إلى أن ظاهرة الرشدية اليهودية لم تكن ممكنة إلا بإدماج كتاب "فصل المقال" داخل الفلسفة اليهودية، وجعله جزءاً أساسياً من التعليم الفلسفي لدى يهود العصور الوسطى وعصر النهضة. فهذا الإدماج هو ما يميزها، في مقابل تجاهل اللاتين لكتاب "فصل المقال"، مما جعل الرشدية اللاتينية غير دقيقة في تعبيرها عن فلسفة ابن رشد، في حين كانت الرشدية اليهودية أقرب إليها وأوضح في تعبيرها عن روح الفلسفة الرشدية.
One of the central concerns of Ibn Rushd (Averroes, d. 595/1198) in his commentaries on Aristotle was defending the theory of Eternity. This theory in Aristotle took the form of the eternal motion of the celestial sphere and its bodies. John Philoponus in his critique of Eternity tried to use one of Aristotle's natural principles to refute his theory of the eternal motion of the celestial body. Philoponus reasoned that every body is finite and thus has finite force, so the celestial bodies cannot have infinite force, and, thus, their rotation could not be eternal. Ibn Rushd tried, in various ways and in many places of his commentaries, to defend the eternal rotation of the heavens, by refuting Philoponus' argument. We can divide Ibn Rushd's solution into a dialectical approach and a demonstrative approach. Dialectically, Ibn Rushd provided some principles that paved the way to convince the reader of the thesis of Eternity itself. He proved that it is not in contradiction with the ideas of the unity of God, of His omnipotence and of His nature as the sole Creator. Ibn Rushd went on to reason that God as an infinite cause could not be proven except by positing infinite causes in circular motion, on the premise that an infinite cause must by necessity produce infinite effects. In this way the eternal rotation of the heavens is the immediate effect of God’s infinite causality. Demonstratively, Ibn Rushd proves that Aristotle’s principle of the finite force in the body is correct in all ways if that body is sublunary; but if it is a celestial body, its force is finite in one respect, infinite in another. It is finite in intensity and speed, moving just one body with a definite magnitude and with a regular fixed speed; it is also infinite in time, that is, it moves the celestial body in infinite time. Ibn Rushd tried to prove that the force of the celestial body is infinite in time in itself and by its nature in many ways, such as proving that this nature is characterized by some distinctive features: it is not composed of matter and form similar to sublunary bodies, its matter is eternal because it is simple and lacks contraries, and its form is just its circular motion.
Ibn Rushd was a philosophical heir to this philosophical tradition which moved with al-Farabi, who combined the work of Plato's with the work of Aristotle, producing practical thought; the Platonic political-oriented and the Aristotelian ethical-oriented. So he took care of Plato's book in politics and of Aristotle’s book in ethics.
But Ibn Rushd is also considered a descendant of an Islamic ethical heritage that has been manifested in jurisprudence, in Sufism and in the philosophical heritage as well. Therefore, we believe that the search for the Rushdian ethical vision should not be separated from this system of practice and knowledge, which is framed by both philosophical and religious visions.
Ibn Rushd speaks of the jurisprudence as a practical virtue, and speaks of the death of lusts as a condition for the rightness of the vision, and summarizes the book of Aristotle of ethics, in which the virtues had been listed and shed light upon, and those last had the greatest impact on the ethical philosophical vision in Islam. He also treats the political book of Plato in a special way by pointing to the political and educational heritage of the Islamic society, therefore we find ourselves before many effects directed the Rushdian ethical vision. We believe that those effects have formed a scientific and practical structure for the Rushdian ethical experience.
Because of the deliberate formulation, in which Abu al-Waleed weaved the grown of reform and righteousness from the wrap and and weft of politics and ethics, there was an intellectual shock in the Muslim West, which led the people of the state of the Almohad Caliphate to hold him accountable for the reform of education in our country. Similarly, there are still urgent needs that make the man lives among us with all his beauty and cognitive violence and sincere intentions towards the nation, and make us look to his track as a memory in Marrakech, in order to raise the structure of what he wanted to be with all his cognitive encyclopedia that exceeded the borders of gender, geography and time.
From this point of view, the Center of Rawafd for Studies and Research in the Maghreb Civilization and the Mediterranean Heritage urges to focus on the political ethical question of Ibn Rushd and its treatment through the following proposed axes:
The nature of the ethical question of Ibn Rushd?
The nature of the political question of Ibn Rushd?
Ethics and Politics of Ibn Rushd: any relationship?
Political Concepts and ethical Concepts: any Relationship?
The ethical vision and concerns of the Islamic society?
Jurisprudence between Ethics and Politics of Ibn Rushd?
What is the status of Ibn Rushd's political and ethical heritage in our reality today? Can it be valid for the requirements of our situation?
In order to go through this section of knowledge, we invite researchers to participate in their valuable research concerning the work of this scientific symposium, so that they can choose to write in one of the proposed axes.
In view of the scientific efforts done by Professor Ahmed Shehlan in directing Ibn Rushd's two main works on the subject, the "Plato Synopses of Politics" and "Summing up the Ethics book of Ibn Rushd," the Center decided to dedicate the work of this symposium to its own merit as a result of its efforts in bringing the practical work of Ibn Rushd closer to scholars